تشغل المجوهرات كلّ حياتي، فتضحى شغفًا أعيشه يوميًّا. طالما أدركت أنّني أنتمي إلى عائلة مصمّمي مجوهرات. غير أنّ الأحداث التالية، التي عشتها بين عمرَيْ الخمس والثماني سنوات، شكّلت نقطة تحوّل في مسيرتي.
زرت مصنع المجوهرات لأوّل مرّة مع جدّي. كان يجول كلّ صباحٍ على الصاغة وصاقلي الحجارة الكريمة، للإطمئنان على حسن سير العمل. عرض عليّ في أحد الأيّام أن أرافقه في جولته. كان يوجّه تعليمات تقنيّة محدّدة ومباشرة للصاغة، فشعرت بالإحترام العارم الذي يكنّونه له. وتأثّرت خلال جولتنا برجلٍ مسنٍّ يصنع خاتمًا. كانت يداه مشقّقتين بفعل الزمان وسنوات الخبرة القاسية. وكانت أصابعه تتحرّك برقّةٍ كأنّه يعزف على آلةٍ موسيقيّةٍ. انبهرت به. شعرت بحبّ هذا العمل.
كنت أزور أحيانًا المصنع وأقضي بعض الوقت مع المصمّمين. المكان الوحيد الذي كنت أُمنع من دخوله كان المسبك. إذ إنّ الأفران، الحرارة العالية وأجهزة الصبّ الثقيلة جعلت منه مكانًا غير آمنٍ. ذات يومٍ، وبدون معرفة أحدٍ، إختلست النظر إلى الغرفة ورأيت مشهدًا مدهشًا: رجلٌ يرتدي قناع حماية على وجهه ويصبّ الذهب الذائب في بوتقةٍ. لم يكن هناك أيّ صوتٍ أو رائحةٍ، بل فقط مشهد ذهبٍ أصفرٍ، مشرقٍ، برتقاليٍّ، يُسكب كالماء. ما زلت أحتفظ بذكرى شعور السكينة الذي ولّدته هذه الحادثة.
عندما كنت على وشك الزواج، أردت أن أصمّم شيءً خاصًّا بزوجتي، مع أنّه كان لدينا إبتكارات جميلة. عندها، وجدت نفسي أبتكر شيءً لم يُصنّع سابقًا للتعبير عن الرسالة التي أردت إيصالها، والتي كانت الحبّ.
تنطلق دومًا من مكانٍ ما. يضمّ أرشيفنا أكثر من 10 آلاف تصميم وتستطيعين التخيّل كم هو ملهمٌ الغوص فيها.
تتغيّر طريقة النساء في ارتدائهنّ المجوهرات مع مرور العقود، غير أنّ المواضيع تضحى نفسها: الأفعى، الورود، العصافير، الطبيعة وحتى الأشكال الجغرافيّة. لمستي الشخصيّة هي في إحيائها وإخبار قصّةٍ من خلالها. خلال عمليّة الإحياء، أكتشف نفسي. لذلك، أضيف لمستي الشخصيّة إلى التصاميم وأجعلها ملكي، من خلال ضمان أنّ جميع حواسّك ستستيقظ عندما تنظرين إليها.
في الواقع، عندما تنظرين للوهلة الأولى إلى القطعة، عليها أن تكون جذّابة، أن تخاطبك. بعدها، تبتدأين باكتشافها من خلال تأمّل تفاصيل تجعلها فريدة من نوعها، فتلمسينها. إذن، أوّل لمسةٍ مهمّة جدًّا، لأنها تسمح لك بتحسّس القطعة.
في حالة "الأفعى الإلهية"، صمّمت عينين بشكل مَرْكيز لتشخيصها. في الواقع، أستوحي تصاميمي من جسد المرأة، الذي أعتبره أجمل مصدر وحيٍ. عندما تنظرين إلى أفعانا، يتهيّأ لك أنّك تنظرين إلى امرأة. هذه هي لمستي الشخصيّة: أن أشخّص المجوهرات لتتفاعلين معها.

إنّها مسيرتي الشخصيّة، من ناحية مكان نشأتي وتعلّمي. قد تظنّين أنّ من يُخلق في عائلة مصمّمي مجوهرات، عليه أن يتبع درب أجداده. لكنّ الأمور لا تسير على هذا النحو، لأنّ الموضوع يتعلّق بالدرجة الأولى بالشخص نفسه. إذا كرّرت التصاميم التي ابتكرها والدي وجدّي – والتي كانت ناجحة جدًّا حينها – لا أكون قد خلقت شيءً خاصًّا فيّ. مسيرتي، علمي وتاريخي الشخصي ينعكسون كلّهم في ما أخلق من مجوهراتٍ.
تستطيعين التفريق بوضوحٍ بين أعمال الأجيال الثلاثة: جدّي، والدي وأنا. تصاميمنا مختلفة جدًّا، لكنّك تستطيعين ملاحظة أنّها تصدر من العائلة نفسها. لمسة طبّاع موجودة فيها كلّها.
سأطلعك على تجربةٍ رائعةٍ. صمّمت عام 2010 خاتم "حبّ الأقحوان"، بشكل زهرة أقحوان تمتلك ميزةً فريدةً: بتلاتها تتحرّك. وكنت مأخوذ بتفاصيل حركة البتلات ولعبة "تحبّني، لا تحبّني". لاقى الخاتم نجاحًا باهرًا، لأنّه أنثوي جدًّا، وفي الوقت عينه مرح وبريء.

ذات يومٍ، كنت أنظر إلى أرشيفنا عندما رأيت أحد تصاميم جدّي ولم أصدّق عينيّ! لم يصمّم أقحوان، بل زهرةٍ تمتلك البتلات نفسها. نادَيْتُ بالجميع قائلًا أنّ الأمر استثنائيٌّ، لا يُصدّق! أعدتُ تصميم تفصيل وُجد من 50 سنةٍ، بدون معرفتي بالأمر.
بيروت هي، ببساطة، مدينة ملهمة. فهي مليئة بالتناقضات، بالحياة وبالأشخاص الذين يستطيعون إلهامك ودفعك للإبتكار.
ينقل إليك سكّان بيروت الكثير من الطاقة. النساء مذهلات هنا! يهتمّن بجمالهنّ بجدّيّة، فيحاولن دائمًا الظهور بأبهى حلّة. كمصمّم، أريد أن أعطيهنّ أفضل ما لديّ، لأنّهنّ يَظْهرن بأفضل حالاتهنّ.
أحبّ هذه المدينة بسبب أبنائها.

طبعًا! هذا هو مسقط رأسنا. طبّاع يعني الذي يطبع، وفي تاريخ مصمّمي المجوهرات العالميّين، قصّة انتقالنا من الطباعة الحريريّة إلى النقش، الصياغة، فالمجوهرات هي فريدة. إنّها شرعيّة طبّاع!
بالنسبة إلى العمل الحرفي، من واجبنا أن نبقيه في لبنان ليس فقط لأنّ هذا البلد هو مكان نشأتنا، بل أيضًا لأنّ فريقنا يفهم روح وفلسفة طبّاع. ترسّخت الجودة، الصناعة الحرفيّة والفرادة في نفوس أبناء فريقنا. فبعضهم يرافقنا منذ أكثر من 40 عامًا. عملوا مع جدّي، والدي ومعي.
هذا ليس خيارًا مقصودًا، بل هو نتيجة لموقع وطننا، بما أنّنا أوّل بلدٍ تمرّين به عندما تنتقلين من الغرب إلى الشرق. لهذا السبب، ينظر اللبنانيّون دائمًا إلى الغرب بعينٍ وإلى الشرق بالأخرى.
من الناحية الجينيّة والجغرافيّة، يُعتبر اللبنانيّون أفرادًا مميّزين. ننظر إلى الغرب ونحلم برقّته وأناقته. نحاول أن نفهمه ونضيف إليه كرمنا المشرقي. تعكس قطع طبّاع عالمَيْ الشرق والغرب. تختصر أناقة النساء الفرنسيّات وميزات الحضارة المشرقيّة. هذا هو ما نحن عليه.
تحويل أحلام النساء بقطع المجوهرات إلى حقيقة هو سبب وجود طبّاع. تبدأ أعمالنا دائمًا كحلمٍ وتنتهي كقطعةٍ فريدةٍ، تخبر للأبد قصّة الزبونة. تُعتبر قطعة طبّاع المعدّة بناءً لطلب الزبونة ناجحةً فقط إن كانت تعكس شخصيّة من طلبها؛ حتى إذا ارتدتها امرأة غيرها، لا تليق بها.

تمامًا كفستان أزياء راقية، كلّ قطعة معدّة بناءً للطلب تتناسب مع زبونةٍ معيّنةٍ.
أستطيع إخبارك قصّة "الشلّال اللامتناهي"، أي العقد الشهير الذي ارتدته شارلين دي موناكو يوم زفافها. استوحيته على الفور من حبّها للبحر، فصمّمته على شكل موجات طمأنينة، مصنوعة من الألماس واللؤلؤ.
لن تعبّر الزبونات عن مشاعرهنّ، بل سينقلنها إليّ من خلال تعابيرهنّ، إشاراتهنّ وكلماتهنّ... لا تستطيعين تعلّم هذه التقنيّة، لأنّها عمليّة تلقائيّة تشعرين بها. خلال التحدّث مع الزبونة واكتشاف أمنياتها، وفي لحظةٍ غير متوقّعةٍ، تشعرين بأحاسيسها وتبدأين بالرسم.
كلّ هذه المجموعات مستوحاة من المرأة – من حواء، المرأة المطلقة، المرأة التي لم تُخلق بعد والتي تختصر جميع النساء. ما أصمّمه يخاطب كلّ النساء، إذ لا أفكّر بامرأة واحدة حين أعمل، بل بالنساء كلّهنّ.
تشبه المرأة قطعة إلماس، ذا 58 وجه. كلّ تصميمٍ يعكس أحد هذه الوجوه، أحد مشاعر المرأة. لهذا السبب، مجموعاتي متنوّعة.
كما أنّني أحبّ أن أخبر القصص من خلال ابتكاراتي. لكلٍّ من جنّة عدن، حبّ الأقحوان، بيري، همسة... قصّة مختلفة يستطيع الناس أن يتفاعلوا معها.
Interview recorded on November 30, 2016 in the Tabbah Headquarters in Beirut.